إن العمل الجمعوي والتطوعي والخيري بمفهومه الواسع يشكل قطاعا متزايد الأهمية بالنسبة لاقتصاديات الكثير من الدول، وقد تتجلى أهميته بكل وضوح عبر العديد من المؤشرات المرتبطة بحجم هذا القطاع، لا سيما من حيث عدد الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الناشطة في هذا المجال، أو من حيث مجالات عملها، وكذا من حيث امتدادها الجغرافي والإقليمي، وغيرها من المؤشرات الأخرى.
وفي هذا السياق، وبعيدا عن بعض الإشكالات التي تثار حول بعض جوانب العمل الجمعوي والتطوعي بصفة خاصة، لا سيما منها تلك الإشكالات التي تمت الإشارة إليها ضمن مقالات مجلة التمويل والتنمية لصندوق النقد الدولي في عددها التاسع والأربعون الصادر في شهر ديسمبر 2016، والتي نذكر منها مقالا لمارينا بريموراك بعنوان: هل يرتحل العمل الخيري وتنظيم المشاريع الاجتماعية حيثما ترتحل المعونة الرسمية؟، فإن المسألة التي تشغل بال المهتمين والباحثين في مجال العمل الخيري أو التطوعي تتعلق دوما بمدى قدرة تلك المنظمات غير الحكومية والجمعيات الناشطة في المجالات التنموية على ضمان الاستمرارية في أعمالها بعيدا عن التقلبات المرتبطة بالحصول على المساعدات والمعونات من الجهات المانحة والمتطوعين من الجمهور، ضمن الهدف الأساسي المتعلق بأن تصبح تلك المنظمات غير الحكومية والجمعيات تتمتع بالقدرة على الاستمرارية والاستدامة المالية.
وعلى ضوء تلك التحديات، يشكل التمويل الأصغر بالنسبة للمنظمات غير الحكومية والجمعيات الناشطة في المجالات التنموية أحد الآليات الهامة الذي يمكن أن يحقق لها مستويات هامة من القدرة على الإستمرارية والاستدامة المالية في مجالات عملها بعيدا عن التقلبات المرتبطة بالحصول على الإعانات والمساعدات، ويكون ذلك من خلال الاتجاه نحو تطبيق فكرة التمكين الاقتصادي للأفراد عبر برامج متخصصة في مجال التمويل الأصغر تعمل على إتاحة الفرصة لهم للاعتماد على أنفسهم وتطوير مشروعاتهم المصغرة والعائلية، بحيث يكون دورها هو العمل على توفير بدائل تمويلية مستحدثة تتوافق مع احتياجات أصحاب تلك المشروعات المصغرة والعائلية على أسس تجارية بحتة، بحيث تصبح تلك المنظمات غير الحكومية في إطار ذلك إحدى الجهات الفاعلة ضمن ما يعرف بصناعة التمويل الأصغر في الوقت الحالي.
ونؤكد على ضوء تلك الرؤية، على أن هذا التغير في الاهتمام بالمسائل المرتبطة بأداء المنظمات غير الحكومية والجمعيات التنموية، كان على أساس ذلك النجاح الذي حققه قطاع التمويل الأصغر خلال مسيرة عمرها أكثر من 40 سنة، بحيث تحولت من خلاله المنظمات والمؤسسات، بما فيها المنظمات غير الحكومية من نموذج يعتمد على التبرعات والمنح والمعونات إلى نموذج يحقق الاستمرارية والاستدامة المالية من الخدمات التي يقدمها للأفراد على أسس تجارية، وتتميز حاليا صناعة التمويل الأصغر بكثرة مؤسساتها الذي تجاوز أكثر من 10.000 مؤسسة للتمويل الأصغــر عبـر العـالم، هذا وقــد بلــغ عــدد المستفيدين من خدماتها المالية أكثر من 200 مليون شخص عبر العال، بمعدلات نمو قد تفوق نسبة 40 % سنــويا حسب نتائج بعض الدراسات الحديثة في هذا المجال.
وما يجب لفت النظر إليه في المجال على ضوء تلك التطورات، هو ذلك التوجه الجديد للمنظمات غير الحكومية نحو التحول المؤسسي بصفتها مؤسسات متخصصة في مجال صناعة التمويل الأصغر، والذي تجسد في التجربة التطبيقية في تحول بعض المنظمات غير الحكومية على مستوى بعض الدول إلى كيانات ومؤسسات هادفة للربح خاضعة للإشراف والتنظيم القانوني الذي يحكم عادة صناعة التمويل الأصغر، لا سيما منها تجربة إحدى المنظمات غير الحكومية في دولة بوليفيا المسماة “مؤسسة بروديم”، والتي تعتبر كأول تجربة لتحول منظمة غير حكومية للتمويل الأصغر في دولة بوليفيا، والتي تحولت من منظمة غير حكومية إلى بنك متخصص للتمويل الأصغر يدعى ” BANCOSOL”، ليصبح هذا البنك من أكبر البنوك العاملة في بوليفيا، أما في المنطقة المغاربية فإن أحدث تجربة للتحول المؤسسي للمنظمات غير الحكومية في الفترة الأخيرة، تتمثل في تحول المنظمة غير الحكومية في تونس المسماة “أندا العالم العربي” إلى شركة للتمويل الأصغر تدعى” أندا للتمويل”، وهي شركة للتمويل الأصغر مرخصة قانونا، ويتم الإشراف عليها من قبل سلطة رقابة التمويل الأصغر.
عمران عبد الحكيم/ جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.