اكتسبت عقود الشراكات بين القطاعين العام والخاص في السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا من طرف العديد من الدول والحكومات في إطار الدور الجديد لمؤسسات القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية، وذلك باعتبار أن هذه العقود تعد في مجال أساليب تمويل التنمية من الأساليب الهامة التي يمكن الاعتماد عليها لمواجهة التحديات التي أفرزتها التطورات الداخلية والخارجية على مستوى العديد من الدول، لا سيما منها تلك التطورات المرتبطة بتحقق العجز المالي عن القيام بتمويل الاستثمار في مشاريع تقديم الخدمات العمومية الناتج أساسا عن الخلل الملاحظ على مستوى هيكل الميزانيات العامة للكثير من الدول، إضافة إلى عدم الفعالية ونقص الكفاءة التسييرية الملاحظة على مستوى العديد من مؤسسات القطاع العام، وكذا تدني مستويات جودة الخدمات العمومية وجوانب الضعف الملاحظة على الكثير من الخدمات العامة المقدمة من طرف مؤسسات القطاع العام بصفة خاصة.
وفي هذا السياق، تعرف الشراكة بين القطاعين العام والخاص على ضوء ما ورد ضمن سلسلة جسور التنمية الصادرة عن المعهد العربي للتخطيط (العدد 117) بأنها:”عملية إشراك القطاع الخاص في بناء وإدارة وتشغيل الخدمات والأنشطة ومشاريع البنية التحتية والمرافق العامة للدولة، والاستفادة من خبراته في إنشاء وإدارة وتشغيل مشاريع مثل الطرق والاتصالات والمواصلات والجسور والمطارات والموانئ والسكك الحديدية والنقل والقطاع الصحي والتعليمي والماء والكهرباء وتوليد الطاقة المتجددة، ومشاريع الصرف الصحي وغيرها”.
وفي إطار ذلك الاهتمام من طرف الدول بالتجسيد العملي والميداني لعقود تلك الشراكات بين القطاعين العام والخاص ضمن العديد من المجالات، فيلاحظ أن هذه العقود قد تعددت تطبيقاتها الميدانية من حيث صيغها القانونية على ضوء مسؤوليات الطرفين، لتشمل على سبيل المثال: عقود الخدمة، عقود الإدارة والتأجير، عقود الإمتياز، عقود المشاريع الجديدة، كما تعددت على ضوء ذلك أشكال عقود تلك الشراكات لتشمل العديد من الأشكال والترتيبات مثل: عقود البناء، التشغيل ونقل الملكية (BOT)، عقود البناء، الملكية، التشغيل ونقل الملكية (BOOT)، عقود التصميم والبناء (DB)، كما يلاحظ أيضا أن عقود تلك الشركات قد تعددت أيضا خصائصها التنظيمية، لا سيما من حيث مدة العقود الطويلة نسبيا، وكذا من حيث حجم التمويل المتأتي من القطاع الخاص، والأدوار المتكاملة لأطراف العقود، تقاسم المخاطر،….، وبذلك تعددت عقود تلك الشراكات بين القطاعين العام والخاص من حيث مجالاتها التطبيقية وممارساتها العملية على أرض الواقع، وذلك ضمن سياسات متكاملة قد تختلف باختلاف أوضاع الدول وظروفها، ولكنها تهدف عموما لتقديم بعض الخدمات العمومية التي تحترم من خلالها تلك الضوابط الأساسية المتعلقة بمتطلبات تقديم تلك الخدمات، والتي منها ضرورة تحقيق مستويات هامة من الكفاءة العالية والتكلفة الأقل، والجودة المطلوبة التي تتطلبها عمليات تقديم تلك الخدمات العمومية
وقد تطور حجم قيمة مشاريع الشراكات بين القطاعين العام والخاص على مستوى الدول العربية بشكل ملحوظ على ضوء ما أشارت إليه إحدى دراسات صندوق النقد العربي بعنوان: أطر الشراكة بين القطاعين العام والخاص في الدول العربية شهر ديسمبر 2019، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة مشاريع الشراكة بين القطاعين قيد التنفيذ قد وصلت إلى 224 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عام 2019. كما أشارت الدراسة نفسها إلى أن التوزيع القطاعي لعقود تلك الشراكات في الدول العربية يغطي عدة قطاعات اقتصادية وخدمية، بيد أنّ هناك تركيز كبير على قطاعات الطاقة، والاتصالات، والنقل، والصحة، وبدرجة أقل قطاعات التعليم، والزراعة، والصناعة، والبيئة، إضافة إلى مجالات أخرى تضمنت، على سبيل المثال، الإسكان، شؤون البلديات، الثروة المعدنية، العمل والتنمية الاجتماعية، الثقافة والإعلام، السياحة وبعض الخدمات العمومية الأخرى. كما أشارت الدراسة إلى أن قطاع النقل والمياه والطاقة والصحة قد استأثر على النصيب الأوفر من مشاريع الشراكة في على مستوى الدول العربية المشمولة بالدراسة، كما أن هناك تنوعا في الأساليب والصيغ المستخدمة في إبرام عقود الشراكة، مع التركيز بشكل أكبر على عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية ومشتقاتها، وعقود الإدارة، وبدرجة أقل على عقود الخدمة، وعقود الإيجار، وعقود الامتياز. ويلاحظ من خلال الدراسة بخصوص التجربة الجزائرية في مجال عقود الشراكات بين القطاعين أن مجالات النقل والمياه والطاقة تعد من أبرز مجالات عقود الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وقد تم تنفيذ تلك العقود فقط من خلال عقود الإدارة أو عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية.
وعلى ضوء ما سبق، فإن الشراكات بين القطاعين العام والخاص بصفة عامة يمكن أن تكون إحدى الآليات الهامة لإقامة مشاريع للبنى التحتية لتقديم الخدمات العمومية بأعلى جودة وأقل تكلفة مقارنة بالاستثمارات التقليدية، وخصوصا إذا ما تم مراعاة الضوابط الأساسية المتعلقة بوضع التشريعات القانونية والتنظيمية اللازمة، وكذا وضع الهياكل المؤسسية والإدارية التي تؤطر وتراقب بشكل جيد كل ما يتعلق بعقود الشراكات بين القطاعين العام والخاص على ضوء مبادئ الشفافية والمنافسة النزيهة ضمن بيئة ملائمة ومستقرة كفيلة بجعل تلك العقود بمثابة شراكات إستراتيجية ضمن رؤية شاملة ومتكاملة يتحدد من خلالها الدور الجديد للدولة والقطاع الخاص.
الدكتور عبد الحكيم عمران/ كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.