فرنسا في "خلاصات" بين جولتين

ماكرون بـ “الفيتو” يمينا ويسارا.. ؟!

0
201

لا تزال فرنسا منشغلة بمفاوضات ما بعد الانتخابات التشريعية بين ثلاث كتل لا يملك أي منها الغالبية المطلقة، وفي حين يريد الرئيس إيمانويل ماكرون أن يمنحها وقتا، يستعجل اليسار الذي تصدر نتائج الانتخابات للإمساك بزمام الأمور.

في “رسالة إلى الفرنسيين”، اعتبر ماكرون أن “أحدا لم يفز” في التشريعيات، ملاحظا أن الكتل التي تم التصويت لها “تمثل كلها أقليات” في الجمعية الوطنية.

من هنا، يعتزم “أن يترك بعض الوقت للقوى السياسية لبناء تسويات”، وفي انتظار ذلك تتولى الحكومة الحالية ممارسة مسؤولياتها عشية استضافة باريس الألعاب الأولمبية.

ويؤيد العديد من شخصيات اليمين والوسط خيار ماكرون، على غرار رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، المسؤول الثالث في الدولة، الذي دعا إلى أن “تجتاز البلاد المرحلة المهمة التي نستضيف فيها الألعاب الأولمبية”، على أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة مع بداية سبتمبر، لكن خطابه لم يرق للتكتل اليساري الذي تمثله “الجبهة الشعبية الوطنية”، التي تصدرت النتائج من حيث عدد النواب الفائزين، وتستعجل تطبيق برنامجها.

ويتهم رئيس الحزب الاشتراكي الرئيس ماكرون بعدم “احترام تصويت الفرنسيين” ، فيما ندد زعيم حزب ” فرنسا الأبية” بـ”عودة الفيتو الملكي”.

كما دعت نقابة “سي جي تي” النافذة إلى تجمعات “بهدف ضمان احترام نتيجة الانتخابات” .

وأقلبت صناديق الأصوات في تشريعيات فرنسا ، خلال الجولة الثانية، كل المؤشرات وحسمت الأمر بمنح المركز الأول لتحالف أحزاب اليسار في «الجبهة الشعبية» بـ 182 مقعدا متبوعا بمعسكر الرئيس ماكرون «الائتلاف الرئاسي» المنتمي لتيار الوسط بـ 168 مقعدا، بينما احتل اليمين المتطرف وحلفاءه «التجمع الوطني» المركز الثالث بـ143 مقعدا بعدما كان فائزا بالمركز الأول في الجولة الأولى، لكنه عانى بعد أن عمل تحالف الجبهة الشعبية وكتلة “معا” للرئيس ماكرون بين الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات لخلق تصويت مضاد للتجمع الوطني .

ولم تستطيع أي من التشكيلات الوصول بمفردها إلى الأغلبية المطلقة المحددة بـ 289 نائبا بالجمعية الوطنية المشكلة من 501 مقعدا ، وهو ما يجعل وعلى الأرجح فرنسا أمام برلمان معلّق مع تحالف يساري في المقدمة لكن بدون أغلبية مطلقة.

وبالمتابعة، تميز الحديث في الأول خلال الانتخابات عن “فرنسا المتطرفة” ووصول «المشروع الكارثي » غير المبالي بالتماسك الايديولوجي و لا بالوازع الأخلاقي ، ليتحول الحديث في لمحة بصر ، عن « فرنسا اليسار» والفوز” المنقذ للجمهورية “، المحفاظ على التوازن السياسي والاجتماعي في البلاد .

ويحمل فوز ائتلاف اليسار بالمركز الأول الكثير من المعاني السياسية، وما يترتب عنها من نتائج جوهرية ستؤثر على مسار فرنسا وأوروبا خلال السنوات المقبلة.

فاليسار الراديكالي الذي كان يؤثث المشهد السياسي من دون حظوظ الفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، أصبح حاضرا بقوة منذ انتخابات الأحد 7 يوليو 2024، وهو حضور سيمتد لسنوات طويلة.

ولعل الذي سمح لهذا اليسار احتلال المركز الأول هو خليط من العوامل، على رأسها إعادة الاهتمام بانشغالات المواطنين إلى أجندة الأحزاب، ثم وعي الناخب الفرنسي بضرورة تشكيل جدار ضد تقدم اليمين المتطرف. وهذا الفوز لا يمنع من الانتباه إلى تقدمه من قوة هامشية و ثانوية ، إلى قوة “كبيرة ” قد تخلق المفاجأة مستقبلا.

وستضاف فرنسا اليسارية إلى دولة أصبحت ذات ثقل في الساحة الأوروبية وهي إسبانيا، التي يحكمها الحزب الاشتراكي، كما أن فوز العمال بالانتخابات في بريطانيا على حساب المحافظين الذين حكموا لـ14 سنة متتالية، من شأنه إنعاش آمال أحزاب يسارية في دول أخرى بأوروبا، وبشكل يشبه بتقدم اليسار في دول أمريكا اللاتينية خلال العقد الأخير.

وتفيد الكثير من التحاليل أن فوز كل من فرنسا وبريطانيا سيعطي أملا للحزب الديمقراطي الأمريكي في مواجهة الجمهوريين، سواء تم الاحتفاظ بجو بايدن كمرشح، أو تم تغييره بمرشح آخر، إذ رغم اختلاف السياق السياسي بين الولايات المتحدة وأوروبا، فالتأثير السياسي المتبادل يتم لمسه كل مرة أكثر خلال العقدين الأخيرين بين الطرفين.

من أبرز ما يمكن استخلاصه في هذه الانتخابات أيضا، هو الاستراتيجية التي تعامل بها اليسار خلال الحملة ، فقد تبنى أسلوب الأحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل وتشيلي والمكسيك ، التي ركزت على أجندة اجتماعية بالدرجة الأولى، و أن السياسة يجب أن تخدم المواطن ، حيث ركز اليسار على ملفات مثل الحد من ارتفاع الأسعار، وإعادة النظر في سن التقاعد، وضرورة استعادة مستوى الرفاهية السابق، وإنهاء رضوخ الدولة لمطالب الشركات المتعددة الجنسيات، أو الشروط المجحفة للاتحاد الأوروبي بشأن الخدمات الاجتماعية والعجز التجاري.

إلى جانب ذلك، فقد ركز اليسار على حملة دق أبواب الناخبين والتحاور عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع الشباب، لأن وسائل الإعلام الكبرى مثل قنوات «سي نيوز» و «بي إف إم تيفي» كانت تدفع باليمين المعتدل والمتطرف إلى الواجهة.

نجحت الجبهة الديمقراطية اليسارية في فرنسا في وقف زحف اليمين المتطرف الذي دخل بقوة إلى الجمعية الوطنية إلا أنه يبقى بعيداً عن السلطة ، لكن يبقى التحدي الكبير هو مواجهة القضايا الشائكة التي زرعت اليأس في صفوف الناخبين ودفعت بهم للرهان على المتطرفين الذين صاروا معادلة لا يستهان بها في المشهد العام الذي أدخل البلاد نفسها منذ بدء الحملة الانتخابية في أجواء متوترة جدا وكلاماً عنصريّاً منفلتا ومخلا بالاستقرار، وقد يستمر عبر ” الاستثمار” السياسي.

تقرير: مختار بوروينة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا