ظاهرة هدر الأغذية وفقدها وانعكاساتها الخطيرة على النظم الغذائية ومصادر المياه والبيئة

0
467

تعد ظاهرة هدر الأغذية وفقدها من الظواهر التي تعرف اهتماما دوليا بارزا من طرف الهيئات الدولية والحكومات في إطار البحث عن أفضل الأساليب والاستراتيجيات التي يمكن الاعتماد عليها للتقليل من حجم ظاهرة هدر الأغذية وفقدها، وكذا للحد من انعكاساتها الخطيرة على استدامة النظم الغذائية والأمن المائي، وما قد يرتبط بها من مشكلات مناخية وأزمات بيئية محتملة.

وقد تأكد ذلك الاهتمام الدولي بهذه الظاهرة المتعددة الأسباب والجوانب والتأثيرات، من خلال إدراجها ضمن الهدف الثاني عشر (الهدف 12 : ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة) من أهداف التنمية المستدامة بوصفها خطة عالمية لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع.

كما يتأكد هذا الاهتمام الدولي من جانب آخر من خلال تحديد الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة 74 ليوم 29 سبتمبر بمثابة يومًا دوليا للتوعية بفقد الأغذية وهدرها، وهو ما يعد حسبها إقرارا بالدور الأساسي الذي يلعبه الإنتاج الغذائي المستدام في الترويج للأغذية والأمن والتغذية.

ومن الناحية النظرية، تعرف هيئة الأمم المتحدة مصطلح هدر الغذاء بشكل عام بأنه:” الإنتاج الذي يتخلص منه المستهلك، حيث إن إهدار الغذاء يحدث عادة في مراحل الإنتاج وما بعد الحصاد والتصنيع الغذائي”. وبالتالي يلاحظ أن هذا المصطلح قد أوسع من مجالات الهــدر والفقدان للأغذية ليشمل كلا الممارسات الناتجة عن ترتيبات المنتجين والمؤسسات والمستهلكين على حد السواء على كامل سلسلة الإمداد والتصنيع للأغذية التي يعد فيها المستهلك النهائي آخر حلقاتها. ومن بين الممارسات التي ينشأ من خلال فقد الأغذية وهدرها بالنسبة للمستهلك النهائي على مستوى المنزل هو ما يتم التخلص منه من أغذية بوصفها نفايات ناتجة عن سوء الشراء والتخطيط للوجبات، والشراء الزائد وسوء التخزين في المنزل، وغيرها من الممارسات التي جعلت المستهلك النهائي يفقد الرشادة المالية متبعا هدف إشباع رغباته دون ضوابط ومعايير تحكم سلوكه الاستهلاكي. أما على مستوي المتاجر والمحلات التجارية، فقد تتجلى أسباب هدر الطعام على مستوى محلات البيع بالتجزئة من خلال مدة الصلاحية المحدودة، وكذا متطلبات تلبية المنتجات الغذائية للمعايير الجمالية من حيث اللون والشكل والحجم والتنوع في الطلب. أما على مستوى المزارع فتتجلى مظاهر هدر الطعام من خلال الترتيبات ذات الصلة بعدم كفاية وقت الحصاد، والظروف المناخية والممارسات المطبقة في الحصاد والمناولة، والتحديات الأخرى المرتبطة بعدم القدرة على تسويق المنتجات ضمن أفضل الظروف. أما على مستوى باقي السلسلة من ترتيبات تتعلق بالنقل والتخزين، فنجد مثلا أن التخزين غير الكافي وغير الملائم ضمن سلسلة التوريد والإمداد قد يتسبب في أن يكون للمنتجات فترة صلاحية أقصر، وأثناء النقل والتصنيع فقد يترتب عن الترتيبات المتعلقة بعمليات المعالجة والتعبئة للأطعمة هدرا أو فقدا لتلك الأطعمة، وغالبًا ما تحدث الخسائر إما لأسباب تقنية أو لأسباب بشرية أو لغيرها من الأسباب الأخرى.

وعلى ضوء ذلك، ومن الناحية الواقعية، فإن ظاهرة هدر الأغذية وفقدانها عبر كافة مراحل سلسلة الإمداد بداية من المنتج إلى المستهلك النهائي، أصبحت دون شك بمثابة تهديد مستقبلي للبشرية جمعاء، وهذا تأسيسا على الأرقام والحقائق المنشورة التي تؤكد على أنه بشكل سنوي ينتهي مصير ما يقدر بنحو ثلث جميع الأغذية المنتَجة( أي ما يعادل 1.3 مليار طن بقيمة تبلغ حوالي 1 تريليون دولار ) بالتعفن في صناديق المستهلكين وتجار التجزئة، أو التلف بسبب سوء ممارسات النقل والحصاد. والمشكلة لن تتوقف عند هذا الرقم المرعب فقط، بل ستتعداه إلى أرقام أخرى ناتجة عن ما قد يحدثه هذا الهــــدر للأغذية وفقدها من مخاطر أخرى مرتبطة بها، فمثلا، ومن ناحية الأمن المائي، فإن حجم ما يتم فقدانه من المياه المستخدمة في إنتاج ذلك الغذاء المهدر يمكن أن يملأ بحيرة جينيف ثلاث مرات، وبذلك تعد ظاهرة هدر الطعام من أكبر عوامل إهدار الموارد المائية في العالم الذي يعرف شحا كبيرا في المياه في السنوات الأخيرة مع تزايد ظاهرة الجفاف.

وأما من ناحية البيئة، فإن لظاهرة هدر الأطعمة وفقدها تأثيرات هامة أيضا بالنسبة للبيئة، ذلك أن الغذاء المهدر في دول العالم المتقدم يذهب إلى مدافن النفايات التي تنتج الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وتشير الأرقام في هذا المجال إلى أن ظاهرة هدر الأغذية تساهم في انبعاث أكثر من 3 مليارات طن من هذه الغازات سنويًا من خلال مدافن النفايات، وبذلك يعد هدر الغذاء وفقده كأنه ثالث أكبر منتج للغازات المسببة للاحتباس الحراري بعد الولايات المتحدة والصين، خصوصا إذا أخذنا بعين أن هذه الغازات المنبعثة لها علاقة مباشرة في حدوث المشكلات المناخية، المؤثرة على موارد المياه، وزيادة نسبة التصحر والجفاف وعيرها من المشكلات البيئية الأخرى.

تأسيسا على ما سبق، وعلى ضوء تلك المخاطر والخسائر الهامة المرتبطة بظاهرة هدر الأغذية، فإن السياسات المتكاملة الهادفة إلى التقليل من حجم هذه الظاهرة تعد دون شك مطلبا لا رجعة فيه، خصوصا وأن التقليل من حجم هذه الظاهرة المتفاقمة ومخاطرها المترتبة عنها سيكون له فعالية أكبر في معالجة انعدام الأمن الغذائي وتخفيف هدر الموارد الأخرى كالأراضي والمياه والبيئة، وهذا ما يتطلب اهتماما دوليا متزايدا يتجلى في اتخاذ إجراءات متعددة على الصعيدين العالمي والمحلي لتعظيم استخدام الأغذية والمحافظة عليها عبر طرق عمل جديدة وممارسات جيدة لنظم الأغذية المستدامة وبحلول تكنولوجية مبتكرة بشكل عام.

وفي هذا السياق، فنحن كمسلمين بحاجة على أن نكون على دراية ووعي بأهمية قضية فقد الأغذية وهدرها في ظل الأزمات الغذائية المتوقعة في الفترة القادمة، خصوصا وأن الدين الإسلامي فيه الكثير من المبادئ والأسس التي أشار إليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تحث على عدم التبذير والإسراف لكل الموارد المتاحة في شتى المجالات، خصوصا وأن في الوقت الذي يساهم فيه بعض الأفراد في إهدار الموارد بما فيها الأغذية في مكان ما يوجد أفراد في مكان آخر يعانون الفقر المدقع ويموتون جوعا، ولعله من المفيد ضمن التفكير في الحلول المؤسسية في هذا المجال واستلهاما من التجارب الدولية الأخرى، هو الإشارة إلى تلك الأفكار الهامة المرتبطة بتلك التجارب التطبيقية ضمن محاولات التقليل من حجم ظاهرة هدر الأطعمة على مستوى بعض الدول، وهو ما يتمثل في قيام بعض الجهات الخيرية الفاعلة إلى تأسيس ما يعرف ببنوك الطعام في العديد من الدول، والتي لها ممارسات مكتسبة ونتائج معتبرة ضمن عملياتها في توفير الغذاء الصحي وكذا ضمن عملياتها في إقامة البرامج التنموية التي يتم من خلالها تنمية الأفراد القادرين على العمل من خلال الشراكات ذات الصلة بمجالات عمل تلك البنوك، ولعله من المفيد التذكير بمثل هذه البنوك المتواجدة في العديد من الدول العربية باستثناء الجزائر طبعا مثل: مصر، السعودية، الإمارات، السودان، تونس، الكويت… إلخ.

ونشير في الأخير على سبيل المثال إلى تعريف بنك الطعام المصري حسب موقعه على شبكة الأنترنات بأنه أول مؤسسة مصرية خيرية حيادية تخصصت في مكافحة الجوع و ممولة بأموال الزكاة و الصدقات و التبرعات التي يتم تحويلها بشكل محترف إلى خدمات وبرامج لتوفير غذاء صحي وفرص حياة آمنة للأفراد.

وفي الختام، قد يكون من المفيد جدا بالنسبة لكل الفاعلين في المجتمع الجزائري، خصوصا ضمن القطاع الخيري، ضرورة التفكير الجدي في تأسيس بنك للطعام في الجزائر بصفته هيئة مؤسسية تقدم خدمات متنوعة ومتكاملة بمستوى عالي من الاحترافية، وذلك في إطار الاستفادة من تلك المكتسبات الهامة ضمن تلك التجارب التطبيقية لبنوك الطعام على مستوى العديد من دول العالم.

الدكتور عمران عبد الحكيم/ كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا