تتابعت في الجزائر العديد من السياسات الهادفة إلى إحداث تغييرات هيكلية على مستوى الاقتصاد الوطني في إطار محاولات التكيف مع تداعيات مختلف التحولات الداخلية والخارجية ضمن أهداف تنويع الاقتصاد الجزائري، وقد تعددت تلك السياسات بحسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الوطنية والدولية، وعلى فترات زمنية متعاقبة، لا سيما منها تلك السياسات المرفقة ببرامج التعديل الهيكلي خلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي، وكذا برامج ومخططات الإنعاش الاقتصادي المختلفة بداية من سنة 2001، أو من خلال النموذج الاقتصادي الجديد للفترة الأخيرة المرتبط بتنويع الاقتصاد الجزائري ضمن آفاق 2030.
وعلى ضوء تلك السياسات والبرامج المتعاقبة، يتضح جليا أن الاقتصاد الجزائري في الوقت الراهن من حيث هيكلته، لا يزال يتميز بعدم التنويع وبارتباطه الكلي بقطاع المحروقات، وبالتالي يبقى عرضة للتقلبات المرتبطة بتراجع أسعار البترول على ضوء المستجدات الدولية والإقليمية. لا سيما إذا تذكرنا تلك التداعيات الأخيرة التي شهدها الاقتصاد الجزائري سنة 2014 فبفعل التراجع في أسعار البترول، وما ترتب عنه من مشاكل مالية بسبب تراجع عائدات قطاع المحروقات. وفي هذا السياق تبقى عملية مواصلة البحث عن فك هذا الارتباط الكبير للاقتصاد الجزائري بقطاع المحروقات أكثر من ضرورية عبر دعم التوجه الحقيقي نحو تنويع الاقتصاد الوطني بالاستفادة من كل الفرص المتاحة في كل المجالات ذات المزايا التنافسية ضمن رؤية اقتصادية واضحة المعالم.
وبذلك، وبتدقيق تلك المؤشرات المرتبطة بالقطاع الصناعي الجزائري في وضعه الحالي، فإنه يتبين بكل وضوح أن قطاع الصناعات التحويلية في الجزائر يتميز بالمحدودية من حيث أهميته النسبية والقيمية بالمقارنة مع طبيعة وحجم الثروات والموارد المتنوعة والهامة التي تملكها الجزائر، حيث يظهر مثلا من خلال تحليل ودراسة المؤشرات المرتبطة بالقطاع الصناعي في الجزائر محدودية القيمة المضافة لقطاع الصناعات التحويلية، إذ لم يسجل قطاع الصناعات التحويلية إلا معدلات ضئيلة تتراوح في مجملها ما بين 3,68 % و 4,9% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2012-2020، وبما يقارب مبلغ 08 مليار دولار كمتوسط للفترة 2012-2020. وبذلك فهو في كل الأحوال بعيد جدا عن ما يساهم به قطاع الصناعات التحويلية في الدول المتقدمة، أين تفوق مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2021 ما يقارب 30% في الصين، وأكثر من 22% في كل من اليابان وماليزيا، وأكثر من 12% في بعض الدول الصناعية الأخرى.
وفي المنطقة المغاربية، يعتبر قطاع الصناعات التحويلية في الجزائر ضعيف جدا(4,9% فقط) مقارنة حتى مع بعض دول المغرب العربي، حيث تفوق مثلا نسبة مساهمة قطاع الصناعات التحويلية في كل من المغرب وتونس أكثر من 14,4% و14,5% ضمن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 على التوالي.
وعلى ضوء ذلك، يطرح التساؤل حول تدني مستويات الصناعات التحويلية المرتبطة بالبترول الخام على سبيل المثال في الجزائر، لا سيما في ذلك، صناعات التكرير، الصناعات البتروكيماوية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار المردود الاقتصادي للصناعات البتروكيماوية، فوفقا لنتائج بعض الدراسات يتبين أنه بالمقارنة مـــــــع أسعـــــــار البتــــــــرول الخـــــــام فـــــــــإن مـــــــردودها يــــــزيد عــــــلى سبعـــــــــة أضعــــــــاف بالنسبة للبتروكيماويات الأساسية، ويزيد بمقدار 10 أضعاف إلى 100 ضعف بالنسبة للبتروكيماويات الوسيطة، وبمقدار 30 إلى 500 ضعف بالنسبة للبتروكيماويات النهائية، وبالتالي فهناك فرق كبير من ناحية المردودية الاقتصادية والمالية بين قيمة البرميل المصنع والبرميل الخام المصدر في شكله الخام.
وعلى سبيل المثال، يعد إنتاج الإثيلين من أهم المنتجات الأساسية للصناعات البتروكيماوية، ويستخدم مؤشر إنتاجه في أغلب الأحيان كمقياس لأداء الصناعات البتروكيماوية بشكل عام. وفي هذا السياق، فإن حصة الجزائر من طاقة إنتاج الإثيلين متدنية جدا ومحدودة، حيث لا تتجاوز نسبة 0,50 % من إجمالي طاقات إنتاج الإثيلين في المنطقة العربية لعام 2020، في حين تتوفر المملكة العربية السعودية على طاقة إنتاج تقدر بنسبة 65,7%، أما دولة الإمارات العربية المتحدة فلها طاقة إنتاج بنسبة 12,6%، وبذلك تعد الجزائر من أضعف الدول في مجال إنتاج الإثيلين في المنطقة العربية.
وعلى ضوء التحليل السابق ونتائجه، فإن التغيير الهيكلي المنشود على مستوى الاقتصاد الجزائري سيتأتى وفقا لما تحقق على مستوى تجارب الدول الصناعية الرائدة، وهنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة في إطار نتائج الدراسات الراصدة للتحولات الهيكلية على مستوى تجارب الدول الصناعية ومن بعدها الدول الصاعدة، لا سيما تجارب تلك الدول في منطقة شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، والتي تتعلق “برصد سرعة ارتفاع وتيرة التحول في هياكل الاقتصاد من القطاعات والأنشطة الأولية، مثل التعدين والزراعة، وأنشطة التصنيع، وكذلك التحول من الأنشطة الصناعية المرتبطة بالموارد الطبيعية، والكثيفة الاستخدام للعمالة، والقليلة القيمة المضافة إلى أنشطة صناعية وخدمية أكثر تطورا وتعقيدا، وأعلى كثافة في محتواها التقني والمعرفي. “.
وفي السياق نفسه، وعلى ضوء تلك التطورات الهامة التي تعرفها الصناعات التحويلية على المستوى الدولي والإقليمي، لا سيما من حيث طبيعة المنتجات المصدرة ومحتواها المعرفي والتكنولوجي، فإن لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن مساهمة الصادرات خارج المحروقات في الاقتصاد الجزائري، خصوصا إذا قارنا حجم صادرات الصناعات التحويلية في الجزائر مع المؤشرات العالمية، فمثلا، وبناءْ على نتائج تحليل هيكل الصادرات العالمية، فإن توزيع الصادرات حسب طبيعة المنتج يتركز أساسا في منتجات الصناعات التحويلية التي تمثل ما يقارب نسبة 80% من إجمالي الصادرات للدول الصناعية، وأكثر من 82% من إجمالي الصادرات الكلية لدول شرق آسيا.
ومن جانب آخر، فمن حيث طبيعة منتجات الصناعة التحويلية المصدرة في العالم، فيكشف تقرير التنمية الصناعية لعام 2020 بأن أكثر من 60% من صادرات الصناعات التحويلية في كل من الدول الصناعية وكذا الصين هي منتجات ذات التكنولوجيا المتوسطة والعالية، أما عن مصدر إنتاج تلك المنتجات ذات التكنولوجيا المتوسطة والعالية، فيأتي الجواب وفقا لما جاء في تقرير التنمية الصناعية لعام 2018 من خلال الفقرة التالية: “إن أكثر من 65 % من المنتجات ذات التكنولوجيا المتوسطة والعالية يتم إنتاجها على مستوى الدول الصناعية. ”
وفي ظل الثورة الصناعية الرابعة، وعلى ضوء تقرير التنمية الصناعية لعام 2020، فإن الدول الرائدة في مجال تكنولوجيات الإنتاج الرقمي المتقدم مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، ألمانيا، الصين، تايوان، فرنسا، سويسرا، بريطانيا، كوريا، هولندا، تستأثر لوحدها بحوالي 70% من الصادرات العالمية، وهي لا تبتكر تكنولوجيات إنتاجية جديدة فحسب، بل تبيع أيضا في الأسواق العالمية السلع التي تجسد هذه التكنولوجيات.
وفي الأخير، وتأسيسا على ما سبق، فإن التفكير الجاد في وضع سياسات متكاملة لتطوير منظومة الصناعات التحويلية في الجزائر بعيدا عن السياسات الارتجالية المتسرعة أحيانا، وغير المدروسة أحيانا أخرى، يعد دون شك ضرورة قصوى وأحد مفاتيح تحسين أداء الاقتصاد الجزائري وتنويع مجالاته، وفك ارتباطه وتبعيته لقطاع الصناعات الاستخراجية، ذلك أن قطاع الصناعات التحويلية يعد بمثابة القطاع الإنتاجي الواعد الذي ينطوي على فرص استثمارية هامة تساعد على إحداث حركية كبيرة على مستوى كل قطاعات الاقتصاد الجزائري، بما يسمح في إطار ذلك بتنويع مصادر الدخل وزيادة مستويات التشغيل والرفع من القدرات التصديرية، وبذلك، فإن أي تباطؤ في هذا المجال سيعمق من فجوة التطور التي تفصلنا عن الصفوف الأولى في التطور والتقدم الحضاري.
الدكتور عمران عبد الحكيم/ كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.